في مارس 2012، انتشرت أنباء عن تقديم الإخوان المسلمين مشروع قانون بخصوص "تنظيم الحق في التظاهر" إلى مجلس الشعب المنحل في مايو من العام ذاته، وهو الأمر الذي قوبل برفض وعاصفة من النقد من جانب الحركات والأحزاب السياسية والساسة المناهضين للإخوان، إضافةً لبعض ممن حُسبوا على التيار الإسلامي.
وكانت عاصفة النقد تلك قد وصلت إلى حد أن علق رئيس حزب الأصالة السلفي –اللواء عادل عفيفي– على مشروع القانون قائلاً إنه "ينقصه توقيع مبارك"، بينما اعتبر النائب الناصري السابق محمد منيب القانون "عودة لعهد الاحتلال الإنجليزي"، لدرجة أن الأمر وصل لأن وجد البرلماني الإخواني صبحي صالح نفسه مضطرا للتنصل التام من مشروع القانون مصرحاً في أكثر من مناسبة بأنه "فقط قام بجمع الآراء والمقترحات".
بعد اختفائه تماما على أثر غضب كافة أطرف اللعبة السياسية، ظهر مشروع القانون مجددا في في أواخر ديسمبر من العام المنقضي مع ازدياد الغضب الشعبي ضد الرئيس السابق محمد مرسي واهتزاز قطعة الدومينو الأولى، التي انتهت بسقوط حكم الإخوان المسلمين، الأمر الذي واكب الاعتداء المسلح على معارضي مرسي (أحداث الاتحادية) ثم مع إقرار الدستور في مناخ سياسي مثير للجدل في ديسمبر 2012.
كانت تلك المسودة هي الأسوأ بين كل مسودات القانون المذكور، وذلك لأسباب تعرضت لبعضها في مقال نُشِر في مايو الماضي؛ وقد أدى ذلك لأن لاقى مشروع القانون هذا نفس مصير ما سبقه، فقد ظهر بشكل غير رسمي، في قياس لردود الفعل، فكان له ما كان منالهجوم، فاختفى إلى الأبد مع نفي رسمي لطرح كتلة الأغلبية مناقشته من الأساس.
ظهرت بعد ذلك عدة مسودات من جانب وزارة المستشار أحمد مكي، وكان تُنتَقَد لتختفي ثم تظهر بشكل أفضل مما كانت عليه، حتى انتهى الأمر عند مسودة 15 فبراير والتي وافق عليها من حيث المبدأ مجلس الشورى، ذو الأغلبية المنتمية لقوى الإسلام السياسي، في 26 مارس 2013.
قوبل مشروع القانون هذا، هو الآخر، بعاصفة من النقد، إلا أن مجلس الشورى استمر في عمله، ممرا مادة تلو الأخرى، رافعا من هامش الحرية في حين، مقيدا له بما يزيد عما هو بمشروع قانون وزارة العدل في معظم الأحيان؛ وكنت قد ذكرت في السابق تفصيلاً لمساوئ مشروع القانون، مشيراً لبعض من كواليس جلسات مجلس الشورى التي حضرتها بدعوة من رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشورى المنحل.
الطريف في الأمر هو أن كافة وسائل الإعلام والحركات والأحزاب السياسية التي هاجمت مشروع القانون بشكل شرس آنذاك، لم ولا يُسمع لهم همس في وقتنا هذا، بينما يتم تمرير ما هو أسوأ من مشروع قانون المستشار أحمد مكي، حيث وافق مجلس الوزراء أمس الأول على مشروع القانون، باعثاً إياه للرئيس المؤقت لإصداره.
ردة على 30 يونيو لا على 25 يناير فحسب
لا يمثل مشروع القانون الذي ينتظر توقيع الرئيس عدلي منصور ردة إلى عصر مبارك فقط، بل هو ردة إلى عصر مرسي؛ فبنظرة عامة وشاملة على مشروع القانون يتضح أن خروج المصريين على سياسات الرئيس السابق محمد مرسي، لم يكن إلا خروج منتج لنفس سياساته، وكأن نظاماً لم يسقط في الثالث من يوليو.
فقد خالف مشروع القانون المعايير والالتزامات الدولية في أكثر من مناسبة؛ فتماما كما أراد حبيب العادلي ومن بعده البرلمان والحكومة المسيطر عليهما من جانب جماعة الإخوان المسلمين، أشارت المادة 13 لقانون هيئة الشرطة رقم 109 لسنة 1971 في إجازة صريحة للقتل باستخدام السلاح الناري، وصولا لاستخدام البندقية الآلية، بلا ضابط مُحْكَم ودون التعرض للمسائلة، وحتى في غير حالات الاعتداء على النفس، وذلك بالمخالفة لكافة المواثيق والمعايير والممارسات الدولية (راجع المبادئ الأساسية لاستخدام القوة والأسلحة النارية،[i] والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب[ii])، وإن كان مشروع القانون هذا يتميز عن مشروع المستشار أحمد مكي بأن ألزم رجال الأمن بالتقيد بقواعد الاشتباك والتدرج في استخدام القوة، على عكس مسودة 15 فبراير التي نصت على التزامهم بالقواعد "بقدر الإمكان" مفرغة النص من محتواه، إلا أن مشروع القانون المنظور حالياً لا يزال يتجاهل مبدأ التناسب في استخدام القوة بشكل تام في مخالفة صريحة لتقرير الأمم المتحدة في هذا الصدد،[iii] تاركاً الحرية لرجال الأمن في اختيار وسيلة الرد التي تناسبهم، فإن خالف المتظاهرون القانون برشق القوات بالحجارة، يحق للقوات اللجوء للوسيلة التي تريد وإن كانت البندقية الآلية، كما يحق للقوات، طبقاً لمشروع القانون، استخدام وسيلة مثل الغاز بشكل مفرط بلا ضابط ولا رابط، ولو كان التجمع في مكان مغلق مما يشكل خطراً على حياة الأفراد.
إضافةً إلى ذلك، أتى مشروع القانون هذه المرة بأمر عجيب لم نر له مثيل في أي من الممارسات الدولية من قبل، حيث أسست مادته الحادية عشر حقا للشرطة بتفريق المظاهرة في حالة صدور "سلوك من المشاركين فيها يشكل جريمة يعاقب عليها القانون"، مانحةً بهذا قوات الأمن سلطة إصدار الأحكام وتنفيذها في الحال؛ فسيكون للشرطة الحق في تحديد أن هذا الشعار أو الهتاف قد تخطّى مرحلة النقد ليشكل جريمة سب الموظف العام أو الرئيس، على سبيل المثال، ومن ثم يحق للشرطة تفريق هذا التجمع، وهو أمر يمثل ردة على كل مشاريع القوانين السابقة.
وإن كان مشروع القانون الحالي أفضل من مشروع المستشار مكي بعدم نصه على أن مخالفة البيانات الموجودة في "الإخطار" هي سبب كافٍ لتدخل قوات الأمن باستخدام القوة، إلا أنه لم يغلق هذا الباب تماما في ذات الوقت، تاركاً فرصة للتأويل والتفسير بعدم النص صراحةً على أن مخالفة بيانات "الإخطار" لا تعد سبباً كافياً لتفريق التجمع بالتماشي مع تقرير الأمم المتحدة،[iv]، وعلى أي حال، فقد تبني مشروع القانون نفس نص حكومة الدكتور هشام قنديل ومجلس الشورى في تأسيسه معايير فضفاضة تبيح تدخل الشرطة في حالات لا تبرير لها، متجاهلاً في ذلك لغة القانون الدولي والتي كرسها نص المادة 21 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية.
واستمراراً في اتجاه الارتداد حتى عمّا عرضته وزارة المستشار أحمد مكي، لم يكتف مشروع القانون بمنح الشرطة الحق في الاعتراض على المظاهرات دون إبداء أي أسباب سوى "حصول جهات الأمن على أدلة ومعلومات" تفيد باحتمال ارتكاب المخالفات المنصوص عليها في القانون، بل زاد مشروع القانون على ما سبق بأن أطلق يد الشرطة في الاعتراض على تنظيم المظاهرة، ملزماً المتظاهر بالالتجاء لقاضي الأمور الوقتية لإلغاء اعتراض الشرطة، بعد أن كان الأمر في المسودات السابقة يلزم الشرطة، لا المتظاهر، بالالتجاء للقاضي لتفعيل اعتراضها على تنظيم المظاهرة، بشكل يحوِّل "الإخطار" إلى "إذن"، وهو تعديل مشابه تماماً لذلك الذي أدخلته كتلة الإخوان على مشروع وزارة مكي في مجلس الشورى، قُبيل مظاهرات 30 يونيو العارمة وكأن تلك المظاهرات لم تحدث.
وقد سلك مشروع القانون نفس نهج المسودات السابقة آتياً بمساوئ لا يتسع لها المجال؛ وهي تتعلق بتقويضه الاجتماعات في المحال الخاصة والمعدة لعمل اجتماعات عامة بلا مبرر في مخالفة صريحة للمعايير والممارسات الدولية الفُضْلى التي لا تنظم هذا النوع من التجمعات،[v] كما تجاهلت النصوص بشكل كامل الحق إقرار الحق في الإضراب تاركةً الأمر لمواد قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 والذي يفرغ الحق من محتواه في إخلال واضح وصريح لالتزامات مصر بنصوص الاتفاقية 87 والصادرة عن منظمة العمل الدولية، ذلك إضافةً لتجريم مشروع القانون في أكثر من نص "المبيت" أو الاعتصام بشكل كامل في ممارسة لم نر لها مثيل في القانون المقارن في هذا الشأن، ومن ناحية أخرى، حظر مشروع القانون التظاهر بشكل كامل على بعد مسافة 100 متر من عدة مباني منتشرة بشكل كبير في جميع أنحاء كافة المحافظات[vi] مما سيكون له أثر التقييد الكامل للحق في التظاهر في الواقع العملي، وهو ما يتعارض ايضاً مع الممارسات الدولية وتقرير الأمم المتحدة الذي يحظر فرض قيود شاملة على أماكن وأوقات بأكملها،[vii] وأخيرا، فقد أتت العقوبات غليظة وغير متناسقة بشكل غريب، فقد أقر مشروع القانون، على سبيل المثال، عقوبة الحبس والغرامة التي لا تقل عن 50 ألف جنيه لمن يرتدي قناعا يخفي وجهه وهي ذات العقوبة المقررة لمن يحمل أسلحة أو ذخائر في المظاهرة.
صمت!
المفاجئ في الأمر هو الصمت التام من جانب أغلب من عارضوا مشاريع القانون المنسوبة لمبارك ومشاريع قانون الإخوان، على الرغم من أنه بنظرة شاملة على مشروع القانون يتضح عدة أشياء أهمها هو أن الفلسفة التشريعية لواضعيه هي تقييد الحق في التظاهر لا توكيده، حيث لم يأت مشروع القانون بميزة واحدة، دون مبالغة، تصب في مصلحة مستخدم الحق في التظاهر، بل أتى بحقوق جديدة للدولة تمكنها من فرض مزيد من القيود على التظاهر.
إضافةً لذلك، يتضح تأثُّر مشروع القانون بالممارسات الدولية، متجاهلا في ذلك السياق المصري، فيما يخص منح السلطات حق الرقابة على الحق وتنظيمه، في حين يتضح تجاهله الممارسات والمعايير والالتزامات الدولية بشكل شبه كامل عند فرضه قيود على ممارسة الحق في التظاهر، ناظراً للسياق المصري واعتباراته الأمنية فقط، دافعا بكارت "الخصوصية المصرية" حين يصب الأمر في مصلحة السلطات متجاهلا إياه ومحتجا بالمعايير الدولية حينما يأتي الأمر لإقرار حقوق لقوات الأمن، وهو ما لا يمكن وصفه إلا بأنه كيل بمكيالين، مشابه تماما لما رأيته داخل أروقة مجلس الشورى إبّان حكم الرئيس السابق.
وعلى أي حال، فأنا لا أستغرب ما رأيته بين سطور مشروع القانون حيث نظرة رجال الدولة القدامى، الذين ثبتوا في مواقعهم على الرغم من كل تقلبات المشهد السياسي منذ 2011، للحق في التظاهر باعتباره شر لا بد منه ولقانون التظاهر باعتباره حق الدولة في تقليم أظافر المحاربين لتقدمها من بلطجية وعملاء، لا باعتبار الحق هو حق الشعب –مصدر السلطات– في الاعتراض على الحكومة عند انحرافها عن إرادة الشعب، مما يؤدي لتقويم الأداء الحكومي ودفعه للأفضل، واعتبار القانون هو استثناء على الوضع الطبيعي الذي هو إطلاق الحق في التظاهر.
ولكن المحزن في الأمر، هو أن ترى أن الكل لا يتنافس سوى على لقب أفضل مؤدٍ لدور "نابوليون" خنزير رواية جورج أورويل الشهيرة –مزرعة الحيوانات– ذلك الخنزير الذي قاد ثورة الحيوانات ضد صاحب المزرعة/ السيد جونز الذي أهمل أحوالهم، ثم ما أن وصل نابوليون للسلطة إلا ونَكَّل برفقائه القدامى وطغى؛ فها هو مشروع قانون تقييد الحق في التظاهر بعد سقوط من لقبه الكافة بالطاغية– مبارك، ها هو يذهب من مبارك للإخوان ثم من الإخوان لحكومة ما بعد 3 يوليو المؤقتة وسط تأييد أوصمت أو اعتراض مشوب بعدم الجدية من جانب معظم القوى المعروفة إعلاميا باسم "الليبرالية".ورغم كل شيء، فإنني لا زلت على أمل بأن تقوم القوى الشبابية والقوى المسماة بـ"اللبيرالية" التي عارضت خروج القانون، وقت المجلس العسكري ووقت حكم الرئيس السابق محمد مرسي، بالعمل بشكل يليق بجدية وخطورة الأمر لإيقاف صدور مثل هذا القانون، وذلك إنقاذا للأمل في التغيير، حيث أن الثورة لا تكون كذلك إلا إذا أحدثت تغييرا جذريا في المؤسسات السياسية والاقتصادية للدولة، وهو ما يُترجم في التشريعات التي تأتي بها النظم الحاكمة على خلفية تغيير غير دستوري للحكومة، أما في حالة صدور مثل هذا القانون فلن يشير هذا لشيء سوى أن سياسات دولتي مبارك ومرسي مستمرة كما هي، وقد يأخذنا هذا إلى حد أن نصف ما حدث في 11 فبراير 2011 وفي 3 يوليو 2013 بـلفظ "انقلاب".
[i] المبادئ الأساسية لاستخدام القوة والأسلحة النارية من جانب مأموري إنفاذ القانون، والتي اعتمدهامؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة الجناة (1990)، متاح بالإنجليزية :http://www.un.org/en/conf/crimecongress2010/pdf/55years_ebook.pdf
[ii] الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والذي قامت مصر بالتصديق عليه في 21 أكتوبر1986
[iii] مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة، تقرير المقرر النوعي بشأن الحق في التجمع السلمي والجمعيات،
رقم الملف المرفوع للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 21 مايو 2012: , U.N. Doc.A/HRC/20/27 Maina Kiai، فقرة 40
المرجع السابق، فقرة 29[iv]
[v] إرشادات بشأن الحق في التجمع، هيئة خبراء منظمة الأمن والتعاون الأوروبي ومكتب االديمقراطية وحقوق الإنسان، فقرة 20,17، لسنة 2007، متاح باللغة الإنجليزية عل]
[vi] حظر مشروع القانون، في مادته رقم 14، التظاهر في نطاق 100 متر من المقار الرئاسةوالمجالسالتشريعية والوزارات والمحافظات والمحاكم والنيابات والمنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية الأجنبية ، ومقار أقسام ومراكز الشرطة ومديريات الأمن والسجون والأجهزة والجهات الأمنية والرقابية والأماكن الأثرية.
[vii] مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة، تقرير المقرر النوعي بشأن الحق في التجمع السلمي والجمعيات،رقم الملف المرفوع للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 21 مايو 2012: , U.N. Doc.A/HRC/20/27 Maina Kiai، فقرة 39
[ينشر بالإتفاق مع "أصوات مصرية"]